يوسف بيدس
اسمه يوسف خليل بيدس فلسطيني الأصل من مدينة الناصرة القابعة فوق جبال
الجليل الفلسطيني في شمال فلسطين ولد في القدس عام 1912 هجر الى لبنان عام
1948 مسيحي الديانة أرثوذكسي المذهب ودرس في مدرسة القديس جورجيوس
الانجيلية في القدس،روى كنت اكره التاريخ, وكان الحساب أحبّ المواد اليّ".
في السادسة عشرة انهى دراسته, وحاز شهادة كامبريدج لكن الحياة لم تكن سهلة
عليه في أوّل الطريق "لقد عملت لمساعدة عائلتي. فنفقات تعليم اخوتي
الثلاثة الاكبر مني كانت تثقل كاهل ابي, وكل اخوتي تعلموا اكثر مني, لكن
لم يكن لي هذا الحظ, على ما قال في حديث اجري معه في كانون الثاني 1967.
بيدس التحق بوظيفتين حكوميتين. "لكن العمل في الدوائر الرسمية كان مملا ورتيبا. فقاده اعلان مبوّب الى "بنك باركلس" حيث "بدأت العمل براتب قدره 8 جنيهات استرلينية, كنت ادفع منها ستة لاهلي, واحتفظ بأثنتين". وفي هذا البنك, بدأ يوسف يتعلم ويكتسب الخبرة والطموح الماليين. روى: "امضيت الليالي الطويلة ادرس الملفات واكتسب علم المبادلات. كنت اسهر احيانا حتى الحادية عشرة ليلا. وبعد ثلاث سنوات, وكنت في الحادية والعشرين, رقيت الى رتبة رئيس قسم التسليف, وكان المنصب من اعلى الرتب التي كانت مفتوحة امام ابناء البلاد".
هناك امضى 11 عاما "من العمل الصعب والبارز. لكنني وجدت ان الراتب ما زال ضئيلا, والعلاوات بطيئة جداً", فانتقل الى البنك العربي عام 1943, "حيث نلت راتبا تجاوز راتبي في باركلس ثلاثة او اربعة اضعاف". وبتعيينه مديرا عاما للمصرف جذب معه زبائن "باركلس" وشارك ايضا في رسم خطة لانماء البنك في المنطقة العربية, حيث ذاع صيته.
كان بيدس يحب النساء والخمر. وهو لم يخف ذلك. "كانت لدي صديقات كثيرات". وعام 1946, تزوج وهو في التاسعة والعشرين في القدس. وعندما بدأت الحرب في فلسطين عام 1947, ارسل زوجته الحامل الى بيروت, بينما بقي هو في القدس يعمل الى ان اشتدت المعارك, فاضطر الى الانضمام اليها.
في بيروت, بقي بيدس من دون عمل بضعة اسابيع, مما جعله يشعر بملل. لكن فكرة خطرت على باله. "استدعيت اربعة من اصدقائي, وقلت لهم: لنشغّل ادمغتنا. استأجرنا مكتبا برأسمال 4 آلاف دولار. انتقينا اسما كالتجار العالميين لان شركتنا كانت صغيرة جداً".
هكذا انطلق العمل في مكتب "التجّار العالميون" International Traders في باب ادريس, ومنه انبثقت تسمية "انترا" Intra, وكان رأسماله 12 الف ليرة, وهدفه التشغيل السريع للعملة. عملت في تبديل العملة الاجنبية, لان التشغيل السريع للعملة يعطي ربحا كبيرا برأسمال صغير", على ما قال, مشيرا الى انه "في مهلة قصيرة اصبحت لي علاقات مع المصارف وشركات الصيرفة في العالم. وكان عملي كبيرا, بحيث حملت اكثر من مئة صيرفي في بيروت على التوقف عن العمل. كان يمكن ان اقوم بعمليات تبلغ 5 ملايين دولار في دقائق".
وبحسب معلومات فإن بيدس تمكن في تلك المرحلة من السيطرة على 60 في المئة من السوق المالية, وكانت لديه شعبية كبيرة بين الفلسطينيين الوافدين من فلسطين والذين كانوا يقصدونه لتصريف اموالهم او ايداعها او استثمارها في قطاعات عدة. وكان هذا النجاح يقابله حسد وخوف لدى مصارف اجنبية وسماسرة ويقول بيدس: "كانوا اول اعدائي لانني قطعت عليهم الكثير من الاعمال".
عام 1951, تأسس "بنك انترا", وهو "عنواننا البرقي", على قوله. في اعوام قليلة, ارتفع حجم اعماله من 5 ملايين ليرة, الى 700 مليون, وتحول امبراطورية عالمية تضم حوالى 40 فرعا عاملا, و24 فرعا قيد الافتتاح, الى تأسيس مصارف شقيقة لـ"انترا" ضمت 33 فرعا و4 مصارف في لبنان و48 شركة.
وكان بيدس يدرك جيدا استياء الاعداء من توسع اعمال مصرفه في لبنان ومختلف انحاء العالم. قال: "كلما كبرنا, كثر عدد اعدائنا في لبنان, مئة عائلة تعتبر نفسها مالكة هذا البلد الصغير. يحاربون بعضهم بعضا, لكنهم يتحدون ضد الدخلاء" وكان بيدس يقصد بكلمة "الدخلاء" التعبير عن نفسه لأنه كان يعتبر دخيلا من وجهة نظر بعض اللبنانيين بسبب أصوله الفلسطينية رغم حمله للجنسية اللبنانية.
عندما يسقط مصرف تعبق رائحة الدماء في الاجواء, كما عندما يسقط القتيل. الانهيارات المصرفية في لبنان فصولها متقطعة, لكنها حاضرة دائماً, تهزّ الاستقرار المصرفي. من وقت الى آخر. وكان اخرها بنك "المدينة" الذي لا تزال قضيته في عهدة القضاء, وعلى صفحات الجرائد. متى يسقط مصرف؟ ولماذا؟ التجربة اللبنانية غنيّة بالأمثلة والاسماء والتواريخ والوقائع. وهي فريدة لانها تبيّن في بعض الحالات ان السياسة والسياسيين ليسوا ابرياء "من دم هذا القتيل". دمروا ولاسباب مختلفة, امبراطوريات مالية, وحوّلوا اخرى الى "كرتون". و"انترا" و"المشرق" لا يزالان يشهدان لهذا.
"في "إنترا" تدخلت السياسة, و"المشرق", اقحمت السياسة فيه". هذا القول للرئيس السابق لمجلس ادارة "شركة إنترا للاستثمار" الدكتور لوسيان دحداح. السياسة عندما تتدخل في العمل المالي والمصرفي, يكون الانهيار المصير المحتم. هذه "المسلمة" يعرفها جيداً جميع المصرفيين والعاملين في القطاع المصرفي. وفي حالة مصرفي "انترا" و"المشرق" الشهيرين, كانت السياسة والسياسيون "البيدق" الذي حرّك كلّ شيء وقضى على كل شيء, والنار التي التهمت الاموال والاشخاص.
بين عام 1966 الذي شهد انهيار "انترا", وعام 1988 الذي هزه "نهب" "المشرق", تغيرت الوجوه والظروف والاسماء. غاب اشخاص بارزون, وظهر آخرون في الساحة. عوقب مسؤولون و"هرب" اخرون من المحاسبة. وربما الامر الوحيد الذي لم يتغير هو الحظ المأسوي لـ"انترا" الذي تعرض مجدداً لنكبة كانت "مدبّرة".
مؤامرة على "انترا"
أعوام طويلة مضت على سقوط "انترا", لا يزال لاسمه وقع كبير, ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب, انما خصوصاً على الصعيد السياسي. وحتى بعد اعوام طويلة, لا يزال ثمة انقسام في الآراء بين من يؤيدون وجود مؤامرة سياسية على البنك وصاحبه الذي انتشر اسمه في كل اقاصي الارض, ومن يعزون الانهيار الى اسباب مالية - اقتصادية صرف. مؤسس "إنترا" ورئيسه الراحل يوسف بيدس كان واضحاً في كلامه على مؤامرة سياسية, اضافة الى مؤامرة اقتصادية لاسقاط امبراطوريته التي تجاوزت موازنتها في احد الايام حوالى خمسة اضعاف موازنة الدولة اللبنانية. وقال باكياً امام احد قضاة المحكمة الاتحادية العليا في البرازيل في 18 آذار 1967: "اقترفت غلطة وحيدة في حياتي اني جعلت نفسي اكبر من حكومة بلادي. وهذا سبب مأساتي تحديداً (...) ما من حكومة تسلّم بهذا الامر (...) لقد ايقنت ان الرئيس (الراحل شارل) حلو كان عازماً على تصفيتي كرجل اعمال". كان اتهامه مباشراً لرأس الدولة اللبنانية.
من جهته, رفض حلو مقولة المؤامرة السياسية على "انترا". وكتب في مذكراته الصادرة في اطار كتاب "شارل حلو حياة في ذكريات" ان "انهيار "انترا" كان لاسباب عدة, في مقدمها السبب الرئيس لانهيار كل امبراطورية الا وهو اتساعها, وتحديداً سرعة هذا الاتساع مع ما يرافقه من مغامرات ناجحة في بعض الاحيان وفاشلة في بعضها الآخر وخطرة في كل الاحيان".
الرجلان الكبيران غابا... على خلاف عميق. ويبقى السؤال: "هل حقاً وراء سقوط "انترا" مؤامرة سياسية؟ وأين الحقيقة؟
اعداء سياسيون واقتصاديون
حتى اليوم لا يزال صوت بيدس يدوي, معدداً اسماء اعدائه السياسيين وغير السياسيين. بعضهم لبنانيون وآخرون اميركيون: الرئيس حلو, الرئيسان الراحلان عبدالله اليافي وصائب سلام, بيار اده, آل عريضة, سامي شقير. واضاف ايضاً: دانيال لودفيغ, دايفد روكفيلر و"التشايز مانهاتن بنك". وكانت له مع كل منهم حكاية لم يتوان عن الكشف عنها, حتى لو كانت تتعلق بملايين الليرات والدولارات.
- "سلام بدأ يهددّني وانضمّ الى اعدائي بعدما رفضت تسليفه 3 ملايين ليرة لبناء شقق, وزرع 8 آلاف منشور مليئة بالاكاذيب عن "انترا" على البنوك والممولين ووافق على دعم اليافي عدوه اللدود شرط ان يأتيه برأسي.
- شقير اراد ان يصبح رئيساً لـ "شركة استثمار مرفأ بيروت", وعندما جعلته نائباً, استقال موجها اللوم اليّ.
- إده يكره منظري. حاول دائماً ان يستعمل جمعية المصارف ضدي.
- عريضة جاءني الى فندق "والدروف" وعرض علي مليوني دولار رشوة لابيعه "طيران الشرق الاوسط". لكنني لست ممن يأخذون مالاً لجيبهم.
- لودفيغ كان يعمل مع "تشايز مانهاتن بنك" وروكفلر ضدي.
- روكفلر كان يطعنني في الظهر ويشارك في المؤامرة لتخريب" انترا".
- التشايز مانهاتن "تصرّف كأنه زمرة من الرعاع في الادغال.
- حكومة اليافي عملت كل ما في وسعها لتقتل "انترا".
وذهب الى التأكيد مرة ان "المؤامرة استمرت في حملة شائعات منظمة. استأجروا اشخاصا ليتصلوا بالناس هاتفيا في بيروت, وزّعوا بينهم صفحات دليل الهاتف محرضين الناس على سحب اموالهم... وقالوا لهم ان "انترا سيقفل ابوابه". وقال من سريره في المستشفى في البرازيل: "لم يعد لي احد, ولا حتى المال اللازم لأكلّف محاميا الدفاع عني. جميع الناس ضدي. هددوني بالقتل اذا عدت (الى لبنان)". بيدس لم يعد. وبعد عام, وفي احد مستشفيات لوزان - سويسرا حيث كان انتقل اليها من البرازيل, اغمض عينيه نهائيا بعد صراع مع مرض عضال, قيل ان الضغط النفسي لقضية "انترا" كان سببه الرئيسي. كان ذلك في 1 كانون الاول 1968.
الشائعات كانت لها اليد الطولى في الاجهاز على "انترا". وقال الدكتور فاروق محفوظ, وكان مستشارا للرئيس سليم الحص وعُيّن عضوا في لجنة الرقابة على المصارف عام 1990, ان "القوى المضادة الداخلية والخارجية استاءت من تفوق "انترا", وبدأت تبث شائعات: بيدس (الفلسطيني) يبيع اراضي فلسطين, بيدس يتعامل مع اسرائيل, اسحبوا ودائعكم من "انترا" قبل افلاسه". واضاف في دراسة له عام 1991: "لقد خاف الاقطاع السياسي من طموحات بيدس وبدأ هذا الاقطاع بابتزازه, فدفع اموالا طائلة حتى ضاق ذرعا بهم (اي بالسياسيين)".
قد تكون القضية اعمق من ذلك. "فقد كان هناك قرار سياسي مبيّت بانهاء بيدس", تقول لـ"النهار" اوساط مطلعة آثرت عدم ذكر اسمها. وتضيف: "يُحكى ان الشعبة الثانية كان يمولها البنك, ثم يبدو انه اوقف تمويلها. والى جانب نواب ووزراء سابقين كانوا اعضاء في مجلس الادارة مثل نجيب صالحة ورفيق نجا ومنير ابو فاضل, افاد موظفون في البنك ان ثلث مجلس النواب كان يقصد "انترا" في نهاية الشهر ليقبض المال".
وتؤكد الاوساط عينها انه "كان هناك تدخل سياسي داخلي لاسقاط "انترا". حصلت حرتقات سياسية على المصرف, وكان بيدس اجرى صفقة كبيرة في الخارج ويُقال انه كان في حاجة ماسة الى السيولة, فسرّبوا شائعة ان لا سيولة لدى البنك, فهرع جميع المودعين للمطالبة باموالهم. الشائعة تقتل احيانا. ويقال ايضا انه كان هناك ايعاز للموظفين بالانتهاء من السيولة بسرعة. كانت هناك مؤامرة من الداخل والخارج. كانت هناك اجهزة استخباراتية اشتغلت في القضية". وتقول بحزم: "لقد تدخلت السياسة في عمل المصرف".
ولعل ابرز الحجج التي يستند اليها الفريق القائل بالمؤامرة السياسية "ان الدولة, وخصوصا المصرف المركزي, لو ارادا انقاذ "انترا" لفعلا, لكنهما لم يريدا. لقد تركاه لمصيره, في مهب الريح والانهيار". هذا كان العتب الرئيسي لبيدس وعدد من صحبه. وكان "الرفض المتواصل" لواضع قانون النقد والتسليف النائب الاول لحاكم مصرف لبنان (كان يتولى آنذاك ادارة المصرف) السيد جوزف اوغورليان دافعا الى تعزيز هذا الاعتقاد. ويصفه احد المصرفيين البارزين في حديثه الى "النهار" بأنه "كان قاسيا ومتصلبا جدا وهو من تربية "بنك سوريا ولبنان". عندما طلب "انترا" مساعدة نقدية تبلغ 50 مليون ليرة, وضع صعوبات امام تأمينها".
وحمّلت احدى الدراسات الموضوعة عام 1978 المصرف المركزي "مسؤولية وضع عراقيل امام إنقاذ "انترا", بحيث عمد اوغورليان الى معارضة كل اقتراح تم التقدم به الى المصرف, مانعا تسليفه اي مبلغ من المبالغ التي فُوّض المصرف المركزي تسليفها للبنوك الاخرى, مع انه كان يعلم جيدا عمق ارتباط الاقتصاد اللبناني بـ"انترا".
انزعاج محلي ودولي
أول المعارضين هذه النظريات, كان الرئيس حلو. وقدم "مرافعة" في كتابه دافع فيها عن التدابير التي اتخذها, وكانت في مثابة شهادة للتاريخ امتدت على 27 صفحة. وأراد ان يبين فيها حسن نية الدولة ازاء "انترا" وبيدس, وفي مقابل سوء ادارة مالية عاناها البنك ويتحمل مسؤوليتها مجلس ادارته. كذلك, من المعارضين الرئيس السابق لجمعية المصارف عضو مجلس ادارة "بنك عودة" الدكتور جورج عشي الذي يستعيد في الذاكرة تلك المرحلة, ويرى ان "أزمة انترا ناشئة اساسا من سوء أداء مجلس ادارته لجهة استعمال ودائع قصيرة الاجل لاجراء توظيفات ذات أجل طويل ولا سيما توظيفات من النوع العقاري. لكن هذه الازمة لو نشأت اليوم لكان امكن استيعابها نتيجة التشريعات الموجودة حاليا, والتي مكنت مصرف لبنان من معالجة اكثر من 30 وضعا مصرفيا, أكثرها كان يحتاج الى معالجة جذرية ناتجة من أزمات بنيوية. ان تعثر "أنترا" جرى في وقت لم يكن مصرف لبنان قد بدأ يمارس صلاحياته بالتطبيق الكامل لقانون النقد والتسليف الذي كان صدر عام 1963, ذاك ان هذا القانون اعطى المصارف مهلة خمس سنوات كي تسوّي اوضاعها مع الاوضاع المستجدة بموجب القانون, وهذا يعني انه في الاعوام الخمسة التي شهدت أزمة "أنترا" كان لا يزال هناك فلتان مصرفي".
لكن عشي يلفت الى "أن "أنترا" كان يعمل بالتحدي. لقد أراد ان يستولي على عدد كبير من المشاريع التي تعود الى المصارف الاجنبية او مصالح أجنبية تمثلها هذه المصارف. كان هناك جو من الشعور بأن هذا البنك بنك تحد لمصالح غربية كبيرة في البلد. أراد شراء "راديو اوريان" ومرفأ بيروت وشركة الريجي وغيرها. وكانت كلها مصالح أجنبية, عدا انه كان يعد فلسطينيا, لأن مؤسسه فلسطيني, كذلك بالنسبة الى المسيطرين عليه. وكانت بعض الجهات اللبنانية تعتبر انه ليس مصرفا لبنانيا بالكامل".
ومن انزعج منه على الصعيد اللبناني? يجيب عشي: "ربما بعض المصارف اللبنانية العاملة التي لم تكن تتمتع بقوة "أنترا" وجبروته. ولكن لا أعني ان وراء توقف "أنترا" عوامل سياسية. لكن الجو السياسي لم يكن ملائما لايجاد معالجات سريعة له, في ظل غياب الاطار القانوني الملائم لهذه المعالجة وفق المتوافر حاليا". ويشارك: "كان الجو السياسي السائد آنذاك, واقصد بذلك جهاز الحكم وعقليته والاجهزة الاستخباراتية غير راض عن تصرفات "أنترا" بسبب جو التحدي الذي فرضه. لقد بلغ الامر ان اصبح لـ"أنترا" خمسة وزراء في مجلس الوزراء. كان لديه انصار في مجلس النواب. كان هناك جو ان هذا البنك يريد ان يأكل البلد. فعندما سقط, كانت هناك شماتة به. ومن دون شك, أحدث سقوطه هزة كبيرة في البلد".
انزعاج سياسي واقتصادي داخلي وخارجي من "أنترا" . هذا ما وضع "أنترا" , وخصوصا بيدس في خانة غير المرغوب فيهما, محليا ودوليا. كان الحكم بالاعدام قد صدر. ولكن من أراد اخراجهما من اللعبة المالية على الصعيد العالمي؟ اذا كان بيدس وجه اصابع الاتهام الى أعداء أميركيين, فان أسماء اخرى برزت ايضا, اضافة الى دول كبيرة. وقد أحصت مجلة "تايم" الاميركية في احد اعدادها الصادرة في تشرين الثاني 1966 ثلاث دول: "بريطانيا التي تحركت اولا اذ كانت غير راضية عن رفض بيدس شراء طائرات "في اس -10" البريطانية لشركة "طيران الشرق الاوسط" التي يملكها "أنترا" . ثم تحركت الحكومة الفرنسية التي تملك 15 في المئة من أسهم طيران الشرق الاوسط وتطمع في امتلاك البقية ولا تحب بيدس الموالي للأميركيين, فجمّدت طلبا لـ"أنترا" لبناء مركز اوروبي في باريس يحتاج اليه حاجة ماسة. ثم تدخلت روسيا, اذ حملت "بنك نارودني" على سحب 5 ملايين دولار من "أنترا".
اضافت: "في ذلك الحين, كانت متاعب "أنترا" أبعد من ان يكون ميؤوسا منها, لكن رائحة الدم انتشرت في الجو المالي. فقد تذرع السياسيون المؤيدون للسعودية في لبنان بحملات الصحف اليسارية على الملك فيصل لحمل بعض السعوديين على سحب كميات كبيرة من ودائعهم. وفي محاولة لتجنب أزمة حادة, توجه بيدس الى البنك المركزي طالبا قرضا. وهناك اصطدم بأخصام قدامى, ولم يعط القرض. وسرعان ما بلغ نبأ الرفض زعماء نقابة موظفي المصارف الذين يكرهون بيدس لابقائه "أنترا" خارج النقابة ودفعه رواتب مرتفعة لموظفيه. وقد قام هؤلاء علي ما ذكر, بقيادة اثنين من الزعماء السياسيين كان بيدس قد رفض اعطاءهما قروضا مالية كبيرة بحملة واسعة, من بيت الى بيت, لنشر نبأ أزمة "أنترا" بين صغار المودعين الذين اصابهم الذعر".
"طفلي". هكذا كان يطلق بيدس على بنكه "أنترا" . ففي اقل من اسبوع, خسر ما كان قد بناه أعواما طويلة. "كان لي طفل اسمه "أنترا" ساعدته على النمو, ليس من اجلي فحسب, انما من اجل خير بلادي ايضا. والآن جُرّدت من طفلي هذا, والبلد الذي يستأثر بحبي الشامل هو لبنان". وأجهش في البكاء في المحكمة البرازيلية. "كان "أنترا" كل ما أملك. لقد كان جنى حياتي, والآن خسرت طفلي الذي هو مصرفي". ولم يطل به الوقت ليخسر حياته... ربما قهرا وغمّاً.
بيدس التحق بوظيفتين حكوميتين. "لكن العمل في الدوائر الرسمية كان مملا ورتيبا. فقاده اعلان مبوّب الى "بنك باركلس" حيث "بدأت العمل براتب قدره 8 جنيهات استرلينية, كنت ادفع منها ستة لاهلي, واحتفظ بأثنتين". وفي هذا البنك, بدأ يوسف يتعلم ويكتسب الخبرة والطموح الماليين. روى: "امضيت الليالي الطويلة ادرس الملفات واكتسب علم المبادلات. كنت اسهر احيانا حتى الحادية عشرة ليلا. وبعد ثلاث سنوات, وكنت في الحادية والعشرين, رقيت الى رتبة رئيس قسم التسليف, وكان المنصب من اعلى الرتب التي كانت مفتوحة امام ابناء البلاد".
هناك امضى 11 عاما "من العمل الصعب والبارز. لكنني وجدت ان الراتب ما زال ضئيلا, والعلاوات بطيئة جداً", فانتقل الى البنك العربي عام 1943, "حيث نلت راتبا تجاوز راتبي في باركلس ثلاثة او اربعة اضعاف". وبتعيينه مديرا عاما للمصرف جذب معه زبائن "باركلس" وشارك ايضا في رسم خطة لانماء البنك في المنطقة العربية, حيث ذاع صيته.
كان بيدس يحب النساء والخمر. وهو لم يخف ذلك. "كانت لدي صديقات كثيرات". وعام 1946, تزوج وهو في التاسعة والعشرين في القدس. وعندما بدأت الحرب في فلسطين عام 1947, ارسل زوجته الحامل الى بيروت, بينما بقي هو في القدس يعمل الى ان اشتدت المعارك, فاضطر الى الانضمام اليها.
في بيروت, بقي بيدس من دون عمل بضعة اسابيع, مما جعله يشعر بملل. لكن فكرة خطرت على باله. "استدعيت اربعة من اصدقائي, وقلت لهم: لنشغّل ادمغتنا. استأجرنا مكتبا برأسمال 4 آلاف دولار. انتقينا اسما كالتجار العالميين لان شركتنا كانت صغيرة جداً".
هكذا انطلق العمل في مكتب "التجّار العالميون" International Traders في باب ادريس, ومنه انبثقت تسمية "انترا" Intra, وكان رأسماله 12 الف ليرة, وهدفه التشغيل السريع للعملة. عملت في تبديل العملة الاجنبية, لان التشغيل السريع للعملة يعطي ربحا كبيرا برأسمال صغير", على ما قال, مشيرا الى انه "في مهلة قصيرة اصبحت لي علاقات مع المصارف وشركات الصيرفة في العالم. وكان عملي كبيرا, بحيث حملت اكثر من مئة صيرفي في بيروت على التوقف عن العمل. كان يمكن ان اقوم بعمليات تبلغ 5 ملايين دولار في دقائق".
وبحسب معلومات فإن بيدس تمكن في تلك المرحلة من السيطرة على 60 في المئة من السوق المالية, وكانت لديه شعبية كبيرة بين الفلسطينيين الوافدين من فلسطين والذين كانوا يقصدونه لتصريف اموالهم او ايداعها او استثمارها في قطاعات عدة. وكان هذا النجاح يقابله حسد وخوف لدى مصارف اجنبية وسماسرة ويقول بيدس: "كانوا اول اعدائي لانني قطعت عليهم الكثير من الاعمال".
عام 1951, تأسس "بنك انترا", وهو "عنواننا البرقي", على قوله. في اعوام قليلة, ارتفع حجم اعماله من 5 ملايين ليرة, الى 700 مليون, وتحول امبراطورية عالمية تضم حوالى 40 فرعا عاملا, و24 فرعا قيد الافتتاح, الى تأسيس مصارف شقيقة لـ"انترا" ضمت 33 فرعا و4 مصارف في لبنان و48 شركة.
وكان بيدس يدرك جيدا استياء الاعداء من توسع اعمال مصرفه في لبنان ومختلف انحاء العالم. قال: "كلما كبرنا, كثر عدد اعدائنا في لبنان, مئة عائلة تعتبر نفسها مالكة هذا البلد الصغير. يحاربون بعضهم بعضا, لكنهم يتحدون ضد الدخلاء" وكان بيدس يقصد بكلمة "الدخلاء" التعبير عن نفسه لأنه كان يعتبر دخيلا من وجهة نظر بعض اللبنانيين بسبب أصوله الفلسطينية رغم حمله للجنسية اللبنانية.
_____________________
قصة بنك أنترا وكيف سقط؟عندما يسقط مصرف تعبق رائحة الدماء في الاجواء, كما عندما يسقط القتيل. الانهيارات المصرفية في لبنان فصولها متقطعة, لكنها حاضرة دائماً, تهزّ الاستقرار المصرفي. من وقت الى آخر. وكان اخرها بنك "المدينة" الذي لا تزال قضيته في عهدة القضاء, وعلى صفحات الجرائد. متى يسقط مصرف؟ ولماذا؟ التجربة اللبنانية غنيّة بالأمثلة والاسماء والتواريخ والوقائع. وهي فريدة لانها تبيّن في بعض الحالات ان السياسة والسياسيين ليسوا ابرياء "من دم هذا القتيل". دمروا ولاسباب مختلفة, امبراطوريات مالية, وحوّلوا اخرى الى "كرتون". و"انترا" و"المشرق" لا يزالان يشهدان لهذا.
"في "إنترا" تدخلت السياسة, و"المشرق", اقحمت السياسة فيه". هذا القول للرئيس السابق لمجلس ادارة "شركة إنترا للاستثمار" الدكتور لوسيان دحداح. السياسة عندما تتدخل في العمل المالي والمصرفي, يكون الانهيار المصير المحتم. هذه "المسلمة" يعرفها جيداً جميع المصرفيين والعاملين في القطاع المصرفي. وفي حالة مصرفي "انترا" و"المشرق" الشهيرين, كانت السياسة والسياسيون "البيدق" الذي حرّك كلّ شيء وقضى على كل شيء, والنار التي التهمت الاموال والاشخاص.
بين عام 1966 الذي شهد انهيار "انترا", وعام 1988 الذي هزه "نهب" "المشرق", تغيرت الوجوه والظروف والاسماء. غاب اشخاص بارزون, وظهر آخرون في الساحة. عوقب مسؤولون و"هرب" اخرون من المحاسبة. وربما الامر الوحيد الذي لم يتغير هو الحظ المأسوي لـ"انترا" الذي تعرض مجدداً لنكبة كانت "مدبّرة".
مؤامرة على "انترا"
أعوام طويلة مضت على سقوط "انترا", لا يزال لاسمه وقع كبير, ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب, انما خصوصاً على الصعيد السياسي. وحتى بعد اعوام طويلة, لا يزال ثمة انقسام في الآراء بين من يؤيدون وجود مؤامرة سياسية على البنك وصاحبه الذي انتشر اسمه في كل اقاصي الارض, ومن يعزون الانهيار الى اسباب مالية - اقتصادية صرف. مؤسس "إنترا" ورئيسه الراحل يوسف بيدس كان واضحاً في كلامه على مؤامرة سياسية, اضافة الى مؤامرة اقتصادية لاسقاط امبراطوريته التي تجاوزت موازنتها في احد الايام حوالى خمسة اضعاف موازنة الدولة اللبنانية. وقال باكياً امام احد قضاة المحكمة الاتحادية العليا في البرازيل في 18 آذار 1967: "اقترفت غلطة وحيدة في حياتي اني جعلت نفسي اكبر من حكومة بلادي. وهذا سبب مأساتي تحديداً (...) ما من حكومة تسلّم بهذا الامر (...) لقد ايقنت ان الرئيس (الراحل شارل) حلو كان عازماً على تصفيتي كرجل اعمال". كان اتهامه مباشراً لرأس الدولة اللبنانية.
من جهته, رفض حلو مقولة المؤامرة السياسية على "انترا". وكتب في مذكراته الصادرة في اطار كتاب "شارل حلو حياة في ذكريات" ان "انهيار "انترا" كان لاسباب عدة, في مقدمها السبب الرئيس لانهيار كل امبراطورية الا وهو اتساعها, وتحديداً سرعة هذا الاتساع مع ما يرافقه من مغامرات ناجحة في بعض الاحيان وفاشلة في بعضها الآخر وخطرة في كل الاحيان".
الرجلان الكبيران غابا... على خلاف عميق. ويبقى السؤال: "هل حقاً وراء سقوط "انترا" مؤامرة سياسية؟ وأين الحقيقة؟
اعداء سياسيون واقتصاديون
حتى اليوم لا يزال صوت بيدس يدوي, معدداً اسماء اعدائه السياسيين وغير السياسيين. بعضهم لبنانيون وآخرون اميركيون: الرئيس حلو, الرئيسان الراحلان عبدالله اليافي وصائب سلام, بيار اده, آل عريضة, سامي شقير. واضاف ايضاً: دانيال لودفيغ, دايفد روكفيلر و"التشايز مانهاتن بنك". وكانت له مع كل منهم حكاية لم يتوان عن الكشف عنها, حتى لو كانت تتعلق بملايين الليرات والدولارات.
- "سلام بدأ يهددّني وانضمّ الى اعدائي بعدما رفضت تسليفه 3 ملايين ليرة لبناء شقق, وزرع 8 آلاف منشور مليئة بالاكاذيب عن "انترا" على البنوك والممولين ووافق على دعم اليافي عدوه اللدود شرط ان يأتيه برأسي.
- شقير اراد ان يصبح رئيساً لـ "شركة استثمار مرفأ بيروت", وعندما جعلته نائباً, استقال موجها اللوم اليّ.
- إده يكره منظري. حاول دائماً ان يستعمل جمعية المصارف ضدي.
- عريضة جاءني الى فندق "والدروف" وعرض علي مليوني دولار رشوة لابيعه "طيران الشرق الاوسط". لكنني لست ممن يأخذون مالاً لجيبهم.
- لودفيغ كان يعمل مع "تشايز مانهاتن بنك" وروكفلر ضدي.
- روكفلر كان يطعنني في الظهر ويشارك في المؤامرة لتخريب" انترا".
- التشايز مانهاتن "تصرّف كأنه زمرة من الرعاع في الادغال.
- حكومة اليافي عملت كل ما في وسعها لتقتل "انترا".
وذهب الى التأكيد مرة ان "المؤامرة استمرت في حملة شائعات منظمة. استأجروا اشخاصا ليتصلوا بالناس هاتفيا في بيروت, وزّعوا بينهم صفحات دليل الهاتف محرضين الناس على سحب اموالهم... وقالوا لهم ان "انترا سيقفل ابوابه". وقال من سريره في المستشفى في البرازيل: "لم يعد لي احد, ولا حتى المال اللازم لأكلّف محاميا الدفاع عني. جميع الناس ضدي. هددوني بالقتل اذا عدت (الى لبنان)". بيدس لم يعد. وبعد عام, وفي احد مستشفيات لوزان - سويسرا حيث كان انتقل اليها من البرازيل, اغمض عينيه نهائيا بعد صراع مع مرض عضال, قيل ان الضغط النفسي لقضية "انترا" كان سببه الرئيسي. كان ذلك في 1 كانون الاول 1968.
الشائعات كانت لها اليد الطولى في الاجهاز على "انترا". وقال الدكتور فاروق محفوظ, وكان مستشارا للرئيس سليم الحص وعُيّن عضوا في لجنة الرقابة على المصارف عام 1990, ان "القوى المضادة الداخلية والخارجية استاءت من تفوق "انترا", وبدأت تبث شائعات: بيدس (الفلسطيني) يبيع اراضي فلسطين, بيدس يتعامل مع اسرائيل, اسحبوا ودائعكم من "انترا" قبل افلاسه". واضاف في دراسة له عام 1991: "لقد خاف الاقطاع السياسي من طموحات بيدس وبدأ هذا الاقطاع بابتزازه, فدفع اموالا طائلة حتى ضاق ذرعا بهم (اي بالسياسيين)".
قد تكون القضية اعمق من ذلك. "فقد كان هناك قرار سياسي مبيّت بانهاء بيدس", تقول لـ"النهار" اوساط مطلعة آثرت عدم ذكر اسمها. وتضيف: "يُحكى ان الشعبة الثانية كان يمولها البنك, ثم يبدو انه اوقف تمويلها. والى جانب نواب ووزراء سابقين كانوا اعضاء في مجلس الادارة مثل نجيب صالحة ورفيق نجا ومنير ابو فاضل, افاد موظفون في البنك ان ثلث مجلس النواب كان يقصد "انترا" في نهاية الشهر ليقبض المال".
وتؤكد الاوساط عينها انه "كان هناك تدخل سياسي داخلي لاسقاط "انترا". حصلت حرتقات سياسية على المصرف, وكان بيدس اجرى صفقة كبيرة في الخارج ويُقال انه كان في حاجة ماسة الى السيولة, فسرّبوا شائعة ان لا سيولة لدى البنك, فهرع جميع المودعين للمطالبة باموالهم. الشائعة تقتل احيانا. ويقال ايضا انه كان هناك ايعاز للموظفين بالانتهاء من السيولة بسرعة. كانت هناك مؤامرة من الداخل والخارج. كانت هناك اجهزة استخباراتية اشتغلت في القضية". وتقول بحزم: "لقد تدخلت السياسة في عمل المصرف".
ولعل ابرز الحجج التي يستند اليها الفريق القائل بالمؤامرة السياسية "ان الدولة, وخصوصا المصرف المركزي, لو ارادا انقاذ "انترا" لفعلا, لكنهما لم يريدا. لقد تركاه لمصيره, في مهب الريح والانهيار". هذا كان العتب الرئيسي لبيدس وعدد من صحبه. وكان "الرفض المتواصل" لواضع قانون النقد والتسليف النائب الاول لحاكم مصرف لبنان (كان يتولى آنذاك ادارة المصرف) السيد جوزف اوغورليان دافعا الى تعزيز هذا الاعتقاد. ويصفه احد المصرفيين البارزين في حديثه الى "النهار" بأنه "كان قاسيا ومتصلبا جدا وهو من تربية "بنك سوريا ولبنان". عندما طلب "انترا" مساعدة نقدية تبلغ 50 مليون ليرة, وضع صعوبات امام تأمينها".
وحمّلت احدى الدراسات الموضوعة عام 1978 المصرف المركزي "مسؤولية وضع عراقيل امام إنقاذ "انترا", بحيث عمد اوغورليان الى معارضة كل اقتراح تم التقدم به الى المصرف, مانعا تسليفه اي مبلغ من المبالغ التي فُوّض المصرف المركزي تسليفها للبنوك الاخرى, مع انه كان يعلم جيدا عمق ارتباط الاقتصاد اللبناني بـ"انترا".
انزعاج محلي ودولي
أول المعارضين هذه النظريات, كان الرئيس حلو. وقدم "مرافعة" في كتابه دافع فيها عن التدابير التي اتخذها, وكانت في مثابة شهادة للتاريخ امتدت على 27 صفحة. وأراد ان يبين فيها حسن نية الدولة ازاء "انترا" وبيدس, وفي مقابل سوء ادارة مالية عاناها البنك ويتحمل مسؤوليتها مجلس ادارته. كذلك, من المعارضين الرئيس السابق لجمعية المصارف عضو مجلس ادارة "بنك عودة" الدكتور جورج عشي الذي يستعيد في الذاكرة تلك المرحلة, ويرى ان "أزمة انترا ناشئة اساسا من سوء أداء مجلس ادارته لجهة استعمال ودائع قصيرة الاجل لاجراء توظيفات ذات أجل طويل ولا سيما توظيفات من النوع العقاري. لكن هذه الازمة لو نشأت اليوم لكان امكن استيعابها نتيجة التشريعات الموجودة حاليا, والتي مكنت مصرف لبنان من معالجة اكثر من 30 وضعا مصرفيا, أكثرها كان يحتاج الى معالجة جذرية ناتجة من أزمات بنيوية. ان تعثر "أنترا" جرى في وقت لم يكن مصرف لبنان قد بدأ يمارس صلاحياته بالتطبيق الكامل لقانون النقد والتسليف الذي كان صدر عام 1963, ذاك ان هذا القانون اعطى المصارف مهلة خمس سنوات كي تسوّي اوضاعها مع الاوضاع المستجدة بموجب القانون, وهذا يعني انه في الاعوام الخمسة التي شهدت أزمة "أنترا" كان لا يزال هناك فلتان مصرفي".
لكن عشي يلفت الى "أن "أنترا" كان يعمل بالتحدي. لقد أراد ان يستولي على عدد كبير من المشاريع التي تعود الى المصارف الاجنبية او مصالح أجنبية تمثلها هذه المصارف. كان هناك جو من الشعور بأن هذا البنك بنك تحد لمصالح غربية كبيرة في البلد. أراد شراء "راديو اوريان" ومرفأ بيروت وشركة الريجي وغيرها. وكانت كلها مصالح أجنبية, عدا انه كان يعد فلسطينيا, لأن مؤسسه فلسطيني, كذلك بالنسبة الى المسيطرين عليه. وكانت بعض الجهات اللبنانية تعتبر انه ليس مصرفا لبنانيا بالكامل".
ومن انزعج منه على الصعيد اللبناني? يجيب عشي: "ربما بعض المصارف اللبنانية العاملة التي لم تكن تتمتع بقوة "أنترا" وجبروته. ولكن لا أعني ان وراء توقف "أنترا" عوامل سياسية. لكن الجو السياسي لم يكن ملائما لايجاد معالجات سريعة له, في ظل غياب الاطار القانوني الملائم لهذه المعالجة وفق المتوافر حاليا". ويشارك: "كان الجو السياسي السائد آنذاك, واقصد بذلك جهاز الحكم وعقليته والاجهزة الاستخباراتية غير راض عن تصرفات "أنترا" بسبب جو التحدي الذي فرضه. لقد بلغ الامر ان اصبح لـ"أنترا" خمسة وزراء في مجلس الوزراء. كان لديه انصار في مجلس النواب. كان هناك جو ان هذا البنك يريد ان يأكل البلد. فعندما سقط, كانت هناك شماتة به. ومن دون شك, أحدث سقوطه هزة كبيرة في البلد".
انزعاج سياسي واقتصادي داخلي وخارجي من "أنترا" . هذا ما وضع "أنترا" , وخصوصا بيدس في خانة غير المرغوب فيهما, محليا ودوليا. كان الحكم بالاعدام قد صدر. ولكن من أراد اخراجهما من اللعبة المالية على الصعيد العالمي؟ اذا كان بيدس وجه اصابع الاتهام الى أعداء أميركيين, فان أسماء اخرى برزت ايضا, اضافة الى دول كبيرة. وقد أحصت مجلة "تايم" الاميركية في احد اعدادها الصادرة في تشرين الثاني 1966 ثلاث دول: "بريطانيا التي تحركت اولا اذ كانت غير راضية عن رفض بيدس شراء طائرات "في اس -10" البريطانية لشركة "طيران الشرق الاوسط" التي يملكها "أنترا" . ثم تحركت الحكومة الفرنسية التي تملك 15 في المئة من أسهم طيران الشرق الاوسط وتطمع في امتلاك البقية ولا تحب بيدس الموالي للأميركيين, فجمّدت طلبا لـ"أنترا" لبناء مركز اوروبي في باريس يحتاج اليه حاجة ماسة. ثم تدخلت روسيا, اذ حملت "بنك نارودني" على سحب 5 ملايين دولار من "أنترا".
اضافت: "في ذلك الحين, كانت متاعب "أنترا" أبعد من ان يكون ميؤوسا منها, لكن رائحة الدم انتشرت في الجو المالي. فقد تذرع السياسيون المؤيدون للسعودية في لبنان بحملات الصحف اليسارية على الملك فيصل لحمل بعض السعوديين على سحب كميات كبيرة من ودائعهم. وفي محاولة لتجنب أزمة حادة, توجه بيدس الى البنك المركزي طالبا قرضا. وهناك اصطدم بأخصام قدامى, ولم يعط القرض. وسرعان ما بلغ نبأ الرفض زعماء نقابة موظفي المصارف الذين يكرهون بيدس لابقائه "أنترا" خارج النقابة ودفعه رواتب مرتفعة لموظفيه. وقد قام هؤلاء علي ما ذكر, بقيادة اثنين من الزعماء السياسيين كان بيدس قد رفض اعطاءهما قروضا مالية كبيرة بحملة واسعة, من بيت الى بيت, لنشر نبأ أزمة "أنترا" بين صغار المودعين الذين اصابهم الذعر".
"طفلي". هكذا كان يطلق بيدس على بنكه "أنترا" . ففي اقل من اسبوع, خسر ما كان قد بناه أعواما طويلة. "كان لي طفل اسمه "أنترا" ساعدته على النمو, ليس من اجلي فحسب, انما من اجل خير بلادي ايضا. والآن جُرّدت من طفلي هذا, والبلد الذي يستأثر بحبي الشامل هو لبنان". وأجهش في البكاء في المحكمة البرازيلية. "كان "أنترا" كل ما أملك. لقد كان جنى حياتي, والآن خسرت طفلي الذي هو مصرفي". ولم يطل به الوقت ليخسر حياته... ربما قهرا وغمّاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق